موضوع عشوائي

آخر المواضيع

التزهيد في علم القراءات والتجويد

بسم الله الرحمن الرحيم
الزهد في علم التجويد والقراءات
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فيقول الله تعالى في كتابه العظيم : ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)) (الإسراء 9) .
لا يختلف اثنان من أهل الإسلام على شرف علوم القرآن ، وعلم الْقِرَاءَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ : عِلْمٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ ، عَظِيمُ الشَّأْنِ ، بَعِيدُ الشَّأْوِ ، مَكَانُهُ قِلاعُ الْعِلْمِ ، وَمَنَابِرُ الْفَهْمِ ، وَلَيْسَ لِمَآدِبِ الطَّعَامِ أَوْ حَمَلَةِ الْأَقْلَامِ .
كنا إذا حضر عالم لبلدتنا نفرح وكأنه يوم عيد ، ونبادر بالحضور تحت قدميه لنُفِيد ، أما إن كان عالمَ قرآن فهو يوم خير وإحسان ؛ وذلك لما أكرمنا الله به من معرفة فضل القرآن الكريم على سائر العلوم ، ويكفينا في هذا المقام ما سطّره إمامنا السيوطي رحمه الله (911 هـ) في مقدمة الإتقان :
" وَإِنَّ كِتَابَنَا الْقُرْآنَ لَهُوَ مُفَجِّرُ الْعُلُومِ وَمَنْبَعُهَا وَدَائِرَةُ شَمْسِهَا وَمَطْلَعُهَا أَوْدَعَ فِيهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِلْمَ كل شيء وأبان فيه كُلَّ هَدْيٍ وَغَيٍّ فَتَرَى كُلَّ ذِي فَنٍّ مِنْهُ يَسْتَمِدُّ وَعَلَيْهِ يَعْتَمِدُ فَالْفَقِيهُ يَسْتَنْبِطُ مِنْهُ الْأَحْكَامَ وَيَسْتَخْرِجُ حُكْمَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
وَالنَّحْوِيُّ يَبْنِي مِنْهُ قَوَاعِدَ إِعْرَابِهِ وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ خَطَأِ الْقَوْلِ مِنْ صَوَابِهِ.
وَالْبَيَانِيُّ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى حُسْنِ النِّظَامِ وَيَعْتَبِرُ مَسَالِكَ الْبَلَاغَةِ فِي صَوْغِ الْكَلَامِ.
وَفِيهِ مِنَ الْقَصَصِ وَالْأَخْبَارِ مَا يُذَكِّرُ أُولِي الْأَبْصَارِ وَمِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ مَا يَزْدَجِرُ بِهِ أُولُو الْفِكْرِ وَالِاعْتِبَارِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُلُومٍ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهَا إِلَّا مَنْ عَلِمَ حَصْرَهَا هَذَا مَعَ فَصَاحَةِ لَفْظٍ وَبَلَاغَةِ أُسْلُوبٍ تَبْهَرُ الْعُقُولَ وَتَسْلُبُ الْقُلُوبَ وَإِعْجَازُ نَظْمٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ". (1)
ومن عجيب الأمر أن كثيرا من طلاب العلم اليوم شغلوا بالنحو أو الفقه أو التفسير أو غيرها من علوم اللغة والشريعة ، وبذلوا في ذلك جهودا مضنية ، وغفلوا عن أصل هذه العلوم ومنبعها ، ألا وهو القرآن الكريم ، فلم يحفظوا كتاب الله تعالى ولم يتعلموا أحكام التجويد ، فاتبعوا غير سبيل السلف الصالح رضوان الله عليهم ،
قال عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) رضي الله عنه : ((تَفقَّهُوا قَبْلَ أن تُسَوَّدُوا)) أي قبل أن يتخذكم الناس أسيادًا ، وحينئذ قد لا تجدون وقتًا لتتفقهوا ، (2)
قلت : فكيف يتقن المرء علمًا هو فرع عن القرآن الكريم ، وهو لا يحفظ القرآن الكريم ولا يتقن تلاوته ؟!
وقال الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ (ت 195 هـ) رحمه الله : كُنَّا إِذَا جَالَسْنَا الأَوْزَاعِيَّ
( ت 157 هـ) فَرَأَى فِينَا حَدَثًا ، قَالَ : يَا غُلامُ ، قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : اقْرَأْ : (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) (سورة النساء آية 11). وَإِنْ قَالَ : لا ، قَالَ : اذْهَبْ ، تَعَلَّمِ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُبَ الْعِلْمَ . (3)
ولعل أسباب إعراض هؤلاء عن حفظ القرآن الكريم وتجويده هي :
1- الجهل بحكم تعلم أحكام التجويد .
قال الله تعالى : ((وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)) (4 المزمل) ، وقال سبحانه ((وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)) (32 الفرقان) ، وقال عز وجل (( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)) (18 القيامة) ، وكلها أوامر للوجوب لم يصرفها نص قرآني أو نبوي آخر للاستحباب ، وبناءً على ذلك وغيره من الأدلة أجمع علماء السلف على وجوب القراءة بأحكام التجويد سواء كانت القراءة سريعة بحدر أم متوسطة بتدوير أم بطيئة بتحقيق ، قال الإمام ابن الجزري (ت 833 هـ) رحمه الله :
وَيُقْرَأُ الْقُرآنُ بِالتَّحْقِيقِ مَعْ ... حَدْرٍ وَتَدْوِيرٍ وَكُلٌّ مُتَّبَعْ
مَعْ حُسْنِ صَوْتٍ بِلُحُونِ الْعَرَبِ ... مُرَتَّلاً مُجَوَّدًا بِالْعَرَبِي
وَاْلأَخْذُ بِالتَّجْوِيدِ حَتْمٌ لاَزِمُ ... مَنْ لَمْ يُجَوِّدِ الْقُرَآنَ آثِمُ
لأَنَّهُ بِهِ اْلإلَهُ أَنْزَلاَ ... وَهكَذَا عَنْهُ إِلَيْنَا وَصَلاَ
وَهُوَ إِعْطَاءُ الحُرُوفِ حَقَّهَا ... مِنْ صِفَةٍ لهَاَ وَمُسْتَحَقَّهَا
مُكَمَّلاً مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفِ ... بِاللُّطْفِ فِى النُّطْقِ بِلاَ تَعَسُّفِ
(4)

2- التفريط في معرفة آداب طالب العلم .
قال خَالِدُ بْنُ نِزَارٍ (ت 222 هـ) ، سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ (ت 179 هـ) ، يَقُولُ لِفَتًى مِنْ قُرَيْشٍ : " يَا ابْنَ أَخِي ، تَعَلَّمِ الأَدَبَ قَبْلَ أَنْ تَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ " . (5) ، وقال ابن المبارك (ت 181 هـ) لأصحاب الحديث : أنتم إلى قليل من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم . (6)
( آداب الطالب في نفسه - كيفية الطلب والتلقي - آداب الطالب مع شيخه - أدب الزمالة - أدب الطالب في حياته العلمية - التحلي بالعمل - المحاذير) هذه أسماء الفصول السبعة التي وضعها العلامة الشيخ بكر أبو زيد (ت 1429 هـ) رحمه الله في كتابه الماتع "حلية طالب العلم" ، أرجو أن يطلع عليها طلاب العلم ليعرفوا الطريق الصحيح ، وبالله التوفيق .
3- الكسل ، وطلب السرعة في التعلم .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
أخي لن تنال العلم إلا بستة ** سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاءٌ وحرصٌ وافتقارٌ وغربةٌ **وتلقين أستاذٍ وطول زمان

هذه مأساة كثير من الطلبة ، يطلبون أن يكونوا فقهاء ومحدثين ومفسرين خلال أسابيع معدودة ، فيقول أحدهم سأحفظ القرآن الكريم وألفية ابن مالك في النحو والشاطبية في القراءات السبع ومختصر كذا في الفقه ... إلخ في شهرين ، يبدأ بنشاط وحماس ولم يلبث أن يفتر ويترك كل شيء ، ولو لازم شيخًا لوجهه إلى الصواب ، وحينئذ سيعلم أن العبرة ليست بالكم بل بالكيف ، وأن الهدف هو سلوك الطريق الصحيح لا قطعه وإكماله ، وفي لفتة مباركة من الإمام الشاطبي (ت 590 هـ) وضح أن تعلم القرآن الكريم يعطي العبد قوة ونشاطا في طلب العلم ؛ لما فيه من ذكر وفضل ؛ فقال رحمه الله : وأخلق به إذ ليس يَخْلُقُ جِدَّةً ... جديدا مُوَالِيهِ عَلَى الْجِدِّ مُقْبِلًا ، وقد دلت أحاديث صحيحة على هذا المعنى .
وقال الإمام الشافعي (ت 204 هـ) رحمه الله : مَنْ تعلَّمَ القرآنَ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ . (7)
4- الإقبال على طلب الإجازات والسماعات الكثيرة بدون دراية وفهم .
"الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" كذا قال ابن المبارك
(8) ، وقال عبد الله ابنُ الإمامِ أحمد بن حنبل (ت 290 هـ) : سمعتُ أبي (ت 241 هـ ) يقول: «طلَبُ عُلُوِّ الإسنادِ من الدين» (9) .
إذا روى شخص عن رئيس دولة كلمة سمعها منه يترنم بها في كل مكان سمعت الرئيس ، قال الرئيس ، فكيف يكون شرف من تلقى القرآن الكريم والحديث النبوي بأسانيد متصلة عن أفضل الخلق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! ولأجل ذلك كان أسعد أيام حياتي عندما أكرمني الله بإجازة قرآنية بالإسناد المتصل عن الصحابة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العزة سبحانه وتعالى ، أعلم أن قوما ضيعوا قيمة الإجازات والأسانيد ، وهذا لا يعنينا ولا يقلل من شأن الإجازات الصادقة والأسانيد الصحيحة ، فكما أنه هناك من يحصلون على شهادات جامعية مزورة أو بغير استحقاق هناك من ينال إجازات مزورة أو بغير استحقاق .
وهناك قوم زهدوا في الإجازات والأسانيد ، وقالوا لا نريد إجازة فقط نريد التصحيح ، قلت سبحان الله ! وهل الإجازة تكون بغير تصحيح وإتقان ؟! هل يحق لطالب درس الطب سبع سنين ولكن لم يحصل على شهادة أن يعمل في أي مستشفى ؟! كلا ، لأنه ليس معه ما يثبت تمكنه في هذا العلم ، وكذلك الإجازة القرآنية تثبت لحاملها تمكنه في إتقان تلاوة القرآن الكريم حرفا حرفا وكلمة كلمة برواية كذا بالإسناد المتصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفس الكيفية التي لقن النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه أحكام التجويد ؛ لئلا يُعَلمَ المجاز الناس عن جهل فيَضِلَّ ويُضِلَّ .
ومن جهة أخرى نرى الإجازات والأسانيد العالية في القرآن الكريم ذات بريق وتأثير شديد على صغار الطلاب (أعني صغار النفوس) ؛ حتى دفع بعضهم الآلاف المؤلفة لجمع الأسانيد في دقائق معدودة ، وتجار الأسانيد - سامحهم الله - فرضوا مبالغ طائلة للحصول على الإجازة بدون قراءة ولا تصحيح ؛ فأهانوا إسناد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وضلُّوا وأَضَلُّوا ، ولست أدري كيف سيحاسبهم الله على هذا الجُرْمِ العظيم ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
وأما إجازات الحديث والإجازات العامة - وهي من أسهل ما يكون - فليست دليلا على العلم ، وبعض علمائنا سامحهم الله يعطونها بمجرد معرفة الاسم وإن كان الطالب لا يعرف شيئا عن الحديث ولا معنى الإجازة ، وإنما يفهم أنها شهادة له بأنه عالم والسلام .

وَلِبَعْضِ العلماء :
إِنَّ الَّذِي يَرْوِي وَلَكِنَّهُ ... يَجْهَلُ مَا يَرْوِي وَمَا يَكْتُبُ
كَصَخْرَةٍ تَنْبُعُ أَمْوَاهُهَا ... تَسْقِي الْأَرَاضِيَ وَهِيَ لَا تَشْرَبُ

وَقَالَ بَعْضُ الظُّرَفَاءِ فِي الْوَاحِدِ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ:
إِنَّ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَخْبَرَةْ ... يَمْشِي وَمَعَهُ أَوْرَاقٌ وَمَحْبَرَةْ
مَعَهُ أَجْزَاءُ يَدُورُ بِهَا عَلَى شَيْخٍ وَعَجُوزْ ... لَا يَعْرِفُ مَا يَجُوزُ مِمَّا لَا يَجُوزْ (10)

وأما سماع الحديث فله شروطه وضوابطه ، وأما المجالس المهذرمة - وإن أجازها بعض العلماء - فلا تُثْبِتُ علما ولا فهما . (11)
5- الاغترار بالشهادات الجامعية .
قال أمير الشعراء أحمد شوقي (ت 1351 هـ) رحمه الله :
"ما بال الناشئ وصل اجتهاده، حتى حصل على الشهادة؛ فلما كحل بأحرفها عينيه، وظفرت بزخرفها كلتا يديه؛ هجر العلم وربوعه، وبعث إلى معاهده بأقطوعة؛ طوى الدفاتر، وترك المحابر، وذهب يخايل ويفاخر، ويدعي علم الأول والآخر؟ فمن ينبيه، بارك الله فيه لأبيه، وجزى سعي معلمه ومربيه: أن الشهادة طرف السبب، وفاتحة الطلب، والجواز إلى أقطار العلم والأدب؛ وأن العلم لا يملك بالصكوك والرقاع، وأن المعرفة عند الثقات غير وثائق الإقطاع. ومن يقول له أرشده الله: إن شهادة المدرسة غير شهادة الحياة؟. فيا ناشئ القوم بلغت الشباب، ودفعت على الحياة الباب؛ فهل تأهبت للمعمعة، وجهزت النفس للموقعة، ووطنتها على الضيق بعد السعة، وعلى شظف العيش بعد الدعة؟ دعت الحياة نزال فهلم اقتحم المجال، وتورد القتال؛ أعانك الله على الحياة، إنه حرب فجاءات وغدر وبيات، وخداع من الناس ومن الحادثات؛ فطوبى لمن شهدها كامل الأدوات، موفور المعدات؛ سلاحه، صلاحه، وترسه، درسه؟ ويلبه، أدبه؛ وصمصامته استقامته؛ وكنانته أمانته؛ وحربته، دربته". (12)
6- تلبيس إبليس على بعضهم بأنهم أصبحوا علماء وسادة فلا يليق بهم أن يجلسوا تحت يد شيوخ ليُحَفِّظُوهم ويُعَلِّمُوهم .
حفظ آيتين ، قرأ كتابين ، حضر مجلسين فظن نفسه عالمَين ، وتلك لعَمر الله قاصمة الظهر ، قال ابن جَمَاعة (ت 733 هـ) رحمه الله : ((العلم ثلاثة أشبار, من دخل فى الشبر الأول تكبر ، ومن دخل فى الشبر الثانى تواضع ، ومن دخل فى الشبر الثالث علم أنه ما يعلم)) . (13) وإعراض هؤلاء عن العلم إما لحياء أو كبر ، كما قالوا لا يتعلم اثنان مستحي ومتكبر ، ربما هذا الشيخ أصغر مني فكيف أتعلم ممن هو أصغر مني ، وأكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة . والبعض فهم حديثا على غير وجهه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ثَلَاثًا: إِحْدَاهُنَّ أَنْ يُلْتَمَسَ الْعِلْمُ عِنْدَ الْأَصَاغِرِ " . (14) قَالَ ابن المبارك وغيره : «الْأَصَاغِرَ هم أَهْلُ الْبِدَعِ» ، فليس معنى الأصاغر في السن على التحقيق ؛ وكثير من علماء الصحابة كابن عباس (ت 68 هـ) وزيد بن ثابت (ت 45 هـ) وأبي سعيد الخدري (ت 74 هـ) وغيرهم - رضي الله عنهم - كانوا صغارا في السن كبارًا في العلم ، وكذا الكثير من علماء السلف رحمهم الله ، قال الألباني (ت 1420 هـ) رحمه الله : يبدو لي أن المراد بـ ( الأصاغر ) هنا الجهلة الذين يتكلمون بغير فقه في الكتاب والسنة ، فيضلون ويضلون ، كما جاء في حديث ( انتزاع العلم ). (15)
7- الانشغال بتصنيف الناس .
هذا الشيخ صوفي قبوري ، وهذا مدخلي ، وهذا قطبي ، وهذا إخواني ، وهذا أشعري ، وهذا سلفي ، وهذا خلفي ، وهذا حليق ، فذاك عدو وهذا صديق ، وربما كانت هذه التصنيفات بناءً على ظنون ، ربما قرءوا قول الله تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)) (الحجرات 12) ، ولكن لعلهم لم يعرفوا معناها حتى يتدبروها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» . (16)
وقال الإمام القرطبي (ت 671 هـ) رحمه الله : ((وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ الْقَبِيحَ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْخَيْرُ لَا يَجُوزُ)) . (17)
قال ابن عساكر (ت 571 هـ) رحمه الله (وَاعْلَم يَا أخي وفقنَا الله وَإِيَّاك لمرضاته مِمَّن يخشاه ويتقيه حق تُقَاته إِن لُحُوم الْعلمَاء رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِم مَسْمُومَة وَعَادَة اللَّه فِي هتك أَسْتَار منتقصيهم مَعْلُومَة ، وكل من أطلق لِسَانه فِي الْعلمَاء بالثلب بلاه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قبل مَوته بِمَوْت الْقلب) . (18)
ولو تكرم الطالب بسؤال الشيخ عن ما يريد ، وأظهر له الشيخ ما عنده لانتهى الأمر ، ولانتفع الطالب بعلم شيخه ، ولو فُرِضَ أن هذه التهمة صحيحة فما المانع أن يأخذ عن شيخه الصواب ويترك الخطأ إن كان مميزا كما قالوا خذ الثمار وخَلِّ العود للنار ، وفي نهاية المطاف المتضرر هو الطالب لتفريطه في العلم ، وأبغض شيء للشيطان هو العلم ، وعالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد .
8- تثبيط الهمم .
تريد أن تتعلم التجويد وتحفظ القرآن ، وماذا ينفعك هذا ؟! أتزيد المصاحف نسخة ؟! المهم أن تفهم وتعمل ، سبحان الله ! كيف يفهم الإنسان أو يعمل بما لا يستطيع قراءته ؟! قال الشيخ ابن عثيمين (ت 1421 هـ) رحمه الله : كان زمان يعيبون علينا يقولون لا تتعب نفسك في حفظ المتن ، عليك بالفهم ، الفهم الفهم ، فوجدنا أننا ضائعون إذا لم يكن عندنا حفظ ، وما نفعنا الله إلا بما حفظنا من المتون ، ولولا أن الله نفعنا بذلك لضاع علينا علم عظيم . فلا تغتر بمن يقول : الفهم . (19)
9- قسوة بعض الشيوخ .
اصْبِرْ عَلَى مُرِّ الْجَفَا مِنْ مُعَلِّمٍ ... فَإنَّ رُسُوبَ الْعِلْمِ في نَفَراتِهِ
وَمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ ساعةً ... تَجَرَّعَ ذُلَّ الْجَهْلِ طُول حَيَاتِهِ

هكذا قال الإمام الشافعي رحمه الله ، فما لك يا طالب العلم إن تأخر عنك الشيخ تَفِرّ وكأنك تحسب المجد حلوا ليس مُرّ ، لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرَ
قال جَرِيرٌ (ت 188 هـ) ، قَالَ: كُنَّا نَأْتِي الْأَعْمَشَ (ت 148 هـ) ، وَكَانَ لَهُ كَلْبٌ، يُؤْذِي أَصْحَابَ الْحَدِيثِ. قَالَ: فَجِئْنَاهُ يَوْمًا، وَقَدْ مَاتَ، فَهَجَمْنَا عَلَيْهِ , فَلَمَّا رَآنَا بَكَى، ثُمَّ قَالَ: «هَلَكَ مَنْ كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ (الخطيب البغدادي ت 463 هـ) : "وَأَخْبَارُ الْأَعْمَشِ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَكَانَ مَعَ سُوءِ خُلُقِهِ، ثِقَةٌ فِي حَدِيثِهِ، عَدْلًا فِي رِوَايَتِهِ، ضَابِطًا لِمَا سَمِعَهُ، مُتْقِنًا لِمَا حِفْظَهُ , فَرَحَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَتَهَافَتُوا فِي السَّمَاعِ عَلَيْهِ. فَكَانَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ رُبَّمَا طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُحَدِّثَهُمُ، فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ، وَيُلِحُّونَ فِي الطَّلَبِ، وَيُبْرِمُونَهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَيَغْضَبُ وَيَسْتَقْبِلُهُمْ بِالذَّمِّ حَتَّى إِذَا سَكَنَتْ فَوْرَتُهُ، وَذَهَبَتْ ضَجْرَتُهُ، أَعْقَبَ الْغَضَبَ صُلْحًا، وَأَبْدَلَ الذَّمَّ مَدْحًا" . (20)
فأين أنتم يا طلاب العلم من هؤلاء الأماجد ؟! فَتَشَبَّهُوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاحُ

ومن فضل الله وكرمه رزقنا الله الصبر مع شيوخنا ، بل والتلذذ بالصبر ، ونسأل الله الثبات حتى الممات.
واليوم ومع الفتح التِّقْنِي الواسع ورغم زوال المشقة بتيسير العلم عن طريق القنوات الفضائية والشبكة الدولية للمعلومات قلَّ أن يصبر طالب مع شيخه ، بل وجدنا طلابا ذوَّاقِين يتعاملون مع الإنترنت كأنه لعبة (بلاي ستيشن) ، فيضيف الطالب هذا الشيخ قليلا ثم يحذفه ثم يبحث عن آخر ، وهكذا ، ويمضي الزمان ولا ينتفع بشيء .

هذه أسباب مجملة لزهد الطلاب في علم التجويد والقراءات ، فمن اجتنبها فاز وحاز ، والوقاية خير من العلاج ، ويعِزُّ عليَّ أن أرى طلابا عَرَبًا يزهدون في هذا العلم العظيم ، في وقت يَجِدُّ فيه العَجَمُ ليلفظوا بأفصح اللغات محرري التجويد والمواقف ، ((وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) (سورة محمد صلى الله عليه وسلم 38) فاللهم استخدمنا ولا تستبدلنا ، وأغننا بالافتقار إليك ، ولا تفقرنا بالاستغناء عنك ، ويسر لنا سبل العلم والفهم والعمل ، واجعلنا اللهم من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك ، والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .


(1) (الإتقان في علوم القرآن 1/16) .
(2) صحيح رواه الدارمي (256) (1/314) وابن أبي شيبة (26111) (5/284) بلفظ ((تَسَوَّدُوا)) وأصلها : "تَتَسَوَّدُوا" على البناء للفاعل وحذفت التاء تخفيفا ، وذكره أبو عبد الله البخاري ثم قال : «وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ» .
(صحيح البخاري 1 / 25) .
(3) رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (80) (1/108) .

وقدم له بقوله : ذِكْرُ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُ حِفْظِهِ عَلَى الْحَدِيثِ يَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يَبْدَأَ بِحِفْظِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ كَانَ أَجَلَّ الْعُلُومِ وَأَوْلَاهَا بِالسَّبْقِ وَالتَّقْدِيمِ ، ورواه ابن عساكر في التاريخ (35 / 186 ، 187) .
(4) (راجع رسالة القول الجامع :

http://zdnyilma.blogspot.com/2015/02/blog-post_27.html
(5) رواه أبو نعيم في الحلية (6/330) ، وابن المظفر (46) (ص 100) .
(6) رواه ابن عساكر في التاريخ (22 / 445) .
وعبد الله ابن المبارك جبل من جبال العلم والزهد ، روى الخطيب وغيره عن نُعَيْمِ بن حماد قال كان عبد اللَّه بن المبارك يكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فَقَالَ: كيف أستوحش وأنا مع النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه (أي مصاحبة الحديث والأثر) . (تاريخ بغداد (5259) (11/388) ) . وراجع ترجمته الفخمة في تاريخ الإسلام للذهبي (112) (8/ 378) .
(7) تاريخ بغداد (3717 ، 218/8) ، (5608 ، 12/252) .
(8) أثر صحيح ، رواه مسلم في مقدمة صحيحه (1 / 15) والترمذي في العلل الصغير (1 / 739) وغيرهما .
(9) "الرحلة في طلب الحديث" للخطيب البغدادي (ص89) .

(10) تدريب الراوي للسيوطي (1 / 36 ، 37) ، قال صاحب الباعث الحثيث في الإجازة العامة :
والرواية بها جائزة عند الجمهور، وادعى القاضي أبو الوليد الباجي الإجماع على ذلك. ونقضه ابن الصلاح والماوردي بما روي عن الشافعي من منع من الرواية بها. وقطع بالمنع القاضي حسين بن محمد المروروذي صاحب التعليقة، وقالا جميعاً: لو جازت الرواية بالإجازة بطلت الرحلة، وكذا روي عن شعبة بن الحجاج وغيره من أئمة الحديث وحفاظه ، وممن أبطلها إبراهيم الحربي، وأبو الشيخ محمد بن عبد الله الأصبهاني، وأبو نصر الوايلي السجزي، وحكى ذلك عن جماعة ممن لقيهم. (الباعث الحثيث ص 119 بتصرف ، وانظر أقسامها ثَمَّ) .

(11) وقد تحدثت في هذا الأمر بشيء من التفصيل في الرابط التالي فليراجعه من شاء :
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=308516
(12) (أسواق الذهب 59،58) .
(13) (تذكرة السامع والمتكلم ص 65 ، وانظر حلية طالب العلم ص 207) .
(14) حسن رواه ابن المبارك في الزهد (61) (1/20) ، والطبراني في الأوسط (8140) (8/116) وغيرهما .
(15) رواه البخاري (6064) (8/19) ، ومسلم (2563) .

(16) (وانظر السلسلة الصحيحة للعلامة الألباني رحمه الله (695) (2/309) .
(17) (تفسير القرطبي 16/332) .
(18) تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري (29 ، 425) .
(19) (شرح حلية طالب العلم ص 84) .
(20) (شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي ص 134) .
وقد يظن البعض أن قلة المال مانع من طلب العلم ، وهذا لا يقول به إنسان فَطِنٌ ؛ لأن العلم موجود في كل مكان بفضل الله تعالى ، والناس يزهدون فيه ، وفي هذا أقول : مَا كَانَ الْفَقْرُ لِيَمْنَعَ طَالِبَ الْعِلْمِ النَّاجِزْ ... بَلْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَوَافِزْ . فالعلم مع الفقر أيسر مئات المرات من العلم مع الغنى ، هذا إن تمكن طالب العلم الغني أن يتفرغ قليلا .

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©