بسم الله الرحمن الرحيم
القول الجامع لأئمة الجوامع
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...

فإني أكتب هذا المقال على عجل ، وأرجو أكون رفيقًا بلا إجحاف أو تساهل أو زلل ،
فالإنصاف عملة نادرة في زمن النت والجدل ، يا معشر الأئمة يا من وفقكم الله إلى إمامة المسلمين في المساجد ، وفقكم الله ونفع بكم وزادكم حرصًا على الخير ، لا سيما المشهورين منكم ، أنتم جميعًا تاج على رءوسنا ، كيف لا ؟! وقد شهد لكم رب العالمين في كتابه فقال عز من قائل : (( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ )) (18 التوبة) ، وقال سبحانه ((رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)) (37 النور) ، أئمتنا الكرام - حفظكم الله - من باب الدين النصيحة كما في الحديث ، ويعلم الله أني أحبكم في الله ، ونصيحتي لا تقلل من شأنكم ، بارك الله فيكم ، وأرجو الله أن يجمعنا في الفردوس الأعلى مع إمام الأئمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، نصيحتي تتركز في قول الله تعالى عن كلامه ، وهو أعظم كلام ، كلام ملك الملوك سبحانه وتعالى ((وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا )) (4 المزمل) ، وقال سبحانه ((وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)) (32 الفرقان) ، وقال عز وجل (( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)) (18 القيامة) ، وكلها أوامر للوجوب لم يصرفها نص قرآني أو نبوي آخر للاستحباب ، وبناءً على ذلك وغيره من الأدلة أجمع علماء السلف على وجوب القراءة بأحكام التجويد (التي إن خالفها الإنسان يتغير المعنى) سواء كانت القراءة سريعة بحدر أم متوسطة بتدوير أم بطيئة بتحقيق ، قال الإمام ابن الجزري رحمه الله :
وَيُقْرَأُ الْقُرآنُ بِالتَّحْقِيقِ مَعْ ... حَدْرٍ وَتَدْوِيرٍ وَكُلٌّ مُتَّبَعْ
مَعْ حُسْنِ صَوْتٍ بِلُحُونِ الْعَرَبِ ... مُرَتَّلاً مُجَوَّدًا بِالْعَرَبِي
وَاْلأَخْذُ بِالتَّجْوِيدِ حَتْمٌ لاَزِمُ ... مَنْ لَمْ يُجَوِّدِ الْقُرَآنَ آثِمُ
لأَنَّهُ بِهِ اْلإلَهُ أَنْزَلاَ ... وَهكَذَا عَنْهُ إِلَيْنَا وَصَلاَ
وَهُوَ إِعْطَاءُ الحُرُوفِ حَقَّهَا ... مِنْ صِفَةٍ لهَاَ وَمُسْتَحَقَّهَ ا
مُكَمَّلاً مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفِ ... بِاللُّطْفِ فِى النُّطْقِ بِلاَ تَعَسُّفِ

ومن جهة أخرى هناك شق آخر لعلم التجويد ، وهو علم الوقف والابتداء ، كما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال الترتيل هو معرفة الوقوف وتجويد الحروف ، وفي أثر ابن عمر - رضي الله عنهما - المشهور : «لَقَدْ لَبِثْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرٍ، وَأَحَدُنَا لِيُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ تَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَأَمْرَهَا وَزَاجِرَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهَا كَمَا يَتَعَلَّمُ أَحَدُكُمُ السُّورَةَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ يَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، مَا يَعْرِفُ حَلَالَهُ وَلَا حَرَامَهُ، وَلَا أَمْرَهُ وَلَا زَاجِرَهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ وَيَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ» . «صحيح على شرط مسلم رواه ابن منده في الإيمان والحاكم وغيرهما» وهو دليل على إجماع الصحابة على تعلم الوقف والابتداء كما ذكر ابن الجزري وغيره ، قال شيوخنا : القرآن يفسر بعضه بعضًا بالوقف والابتداء ، ولا نعني بهذا أن من خالف الوقف والابتداء الصحيح آثم ، قال الإمام ابن الجزري رحمه الله : وليس في القرآن من وقف وجب ... ولا حرام غير ما له سبب ، لكن إن تعمد وقصد معنى مخالفًا للصواب فهو آثم بلا ريب ، والدليل ما صح عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا، فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ " (رواه مسلم)
قال الحافظ أبو عمرو الداني : ففي هذا الخبر أذانٌ بكراهية القطع على المستبشع من اللفظ، المتعلق بما يبين حقيقته، ويدل على المراد منه، لأنه، عليه السلام، إنما أقام الخطيب لما قطع على ما يقبح إذ جمع بقطعه بين حال من أطاع ومن عصى، ولم يفصل بين ذلك، وإنما كان ينبغي له أن يقطع على قوله: ((فقد رشد)) ثم يستأنف ما بعد ذلك، أو يصل كلامه إلى آخره، فيقول: ((ومن يعصهما فقد غوى)) . وإذا كان مثل هذا مكروهاً مستبشعاً في الكلام الجاري بين المخلوقين فهو في كتاب الله، عز وجل، الذي هو كلام رب العالمين، أشد كراهة واستبشاعاً، وأحق وأولى أن يتجنب.
(المكتفى ص
4)
، فمثلًا الوقف على ((وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا)) (9 القصص) أي قرة عين لزوج فرعون فقط أما لفرعون فلا ، وهذا مخالف لإجماع المفسرين ؛ لأنها أرادت أن يكون موسى عليه السلام قرة عين لها ولفرعون معًا وإلا كيف يرضى أن يربى في بيته وهو كاره ، وقد كان يقتل أبناء بني إسرائيل لأنه أُخْبِرَ بأن هلاكه على يد واحد منهم ، أو الوقف على ((فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ)) (4 الماعون) ، أو الوقف على ((كَانُوا قَلِيلًا)) ثم يبتدئ ((مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)) (17 الذاريات) أي لا ينامون ليلا ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم
- وهو أتقانا لله وأخشانا له - كان ينام ويرقد ، ولا يقوم الليل كله كما شهد الله له في آخر سورة المزمل ((إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ)) على قراءة الكوفيين والمكي ، وفي قراءة الباقين ((وَنِصْفِهُ وَثُلُثِهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ)) عطفًا على المجرور بمن ((ثُلُثَيِ اللَّيْلِ)) ، وخير الهَدْيِ هَدْيُ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك فقد قال متواضعًا ((وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ ، وَيَنَامُ سُدُسَه)) (رواه البخاري ومسلم) ، والأمثلة في هذا لا تُحصَر .
وقد شرفني ربي سبحانه وتعالى بأن أكون مأمومًا خلف عدد من الأئمة مشهورين أو مغمورين فلاحظت مع حسن الصوت وجمال التلاوة كثيرًا من الأخطاء ، في أحكام التجويد من مط الحروف وقصر الممدود ومد المقصور وفتح المقلل وتقليل المفتوح وهو لحن خفي ، وقد يمتد بعضها إلى تغيير المعاني برفع المنصوب ونصب المرفوع ، وهو لحن جلي ، وكلاهما (اللحن الجلي والخفي) حرام على التحقيق ، ولاحظت أن كثيرا من الأئمة يغلبون النغم والمقامات الموسيقية على أحكام التجويد ، وقد أجمع العلماء بمن فيهم من أجاز القراءة بالمقامات على حرمة تغليب النغمات والمقامات على أحكام التجويد . (راجع رسالة العلامة الشيخ أيمن سويد البيان لحكم قراءة القرآن الكريم بالألحان) .
ويبقى السؤال ، لماذا لا نتعلم أحكام التجويد والوقف والابتداء كما تعلم الصحابة رضوان الله عليهم ؟! ، هل لعدم وجود الشيوخ ، أقول الحمد لله الشيوخ والعلماء كثيرون ، ويَدْعُون الناس إلى هذا العلم ، ولكن أكثرهم معرضون ، وحجة الله قائمة على الخلق ، لقد جالست كثيرا من الأئمة ونصحتهم لله تعالى ، ليس ليقرؤوا عليَّ وأعلمهم ، حاشا لله ، وإنما هي دعوة ربانية لا شخصية ، فأنا أدعوهم إلى الصواب وليتعلموا على أي شيخ متقن ؛ ليضبطوا قراءتهم لكلام رب العالمين ، ولكن قلّ من يستجيب ، لا أريد أن أذكر أمثلة ، لكن كما علمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نبلغ الخير للناس ونصبر ولا ننتظر النتائج ، وإنما الأعمال بالنيات (الحديث) ، ونية المؤمن أبلغ من عمله ، وعليّ أن أسعى وليس عليّ إدراك النجاح ، ويعلم الله أن القراءة المتقنة ممكنة وغير مستحيلة ، فيا معشر الأئمة (أقصد المقصرين في تعلم التجويد فقط) اقبلوا النصيحة وسيروا على الدرب ، ومن سار على الدرب وصل ، إياكم أن تلتفتوا لإعجاب الناس بكم ومباركتهم قراءتكم الخاطئة ، كل هؤلاء سيتركونكم وستذهبون إلى ربكم فُرَادَى ((وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)) (95 مريم) ، وسيسألكم الله تعالى عن كل علم علمتموه كما في الحديث ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: منها وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ)) (صحيح رواه الطبراني والبزار وغيرهما) ، أثق أن المؤمن الصادق يستجيب ولا يتكبر ، ((الكبر بَطَرُ الحقِّ أي رفضه)) ، والحقَّ نقول وإن كان مُرًّا ، ورحم الله من قال ((إن الحقَّ لم يُبقِ صديقًا لعُمَرَ)) ، ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .