موضوع عشوائي

آخر المواضيع

العفو منهج حياة (تقريظ رسالة البيان في فضائل العفو والإحسان للدكتور يوسف قناوي)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين ، ورحمة الله للعالمين سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد ...


فقد حثَّ الله تعالى عباده المؤمنين على العفو والتجاوز عن الزلل في مواقف شتى ، وإن كان المخالف كافرا ، وقد تجلى جمال العفو ، وتألق بريقه في قوله تعالى :- ( قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (الجاثية: 14) .


وقال سبحانه : (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 109) .


حتى وإن أصر غير المسلمين على عقائدهم ، ولم يستجيبوا لما تدعوهم إليه من حق ، لا يحملنك هذا على عتابهم ومؤاخذتهم ، قال تعالى :-

(وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ.فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: 88 ، 89) قال الإمام القرطبي رحمه الله :-

" وَالْعَفْوُ: تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ. وَالصَّفْحُ: إِزَالَةُ أَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ . صَفَحْتُ عَنْ فُلَانٍ إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذَنْبِهِ. وَقَدْ ضَرَبْتُ عَنْهُ صَفْحًا إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْهُ وَتَرَكْتُهُ " (الجامع لأحكام القرآن 2/71) .
وبعد الكلام عن اليهود ونقضهم المواثيق قال الله عز وجل : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ) (المائدة : 13) .
ويحضرني في هذا المقام ما حدث في أفغانستان ؛ عندما أسر المجاهدون صحفية بريطانية "إيفون ريدلي"
Yvonne Ridley . حسبوها جاسوسة ، والمرأة من ضيقها وضجرها بصقت في وجه أحد المجاهدين ، فما زاد على أن مسح عنه ذلك ، ولم يقابلها بما تكره ، فتعجبت المرأة من هذا الخلق الجميل ، وعندما أطلقوا سراحها أعلنت الإسلام ، وصارت من دعاته . ليس في الإسلام النعرات الجاهلية التي تقول : - ألا لا يَجهَلَنْ أحَدٌ عَلَينا ... فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهلينَا ، لقد ظلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوذي كثيرا من قريش ، وكان قادرا على أن ينتقم منهم في فتح مكة (8 هــــ) ، كما قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: اليَوْمَ يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الكَعْبَةُ ، ولكن عندما علم النبي صلى الله عليه وسلم بما قال سعد قَالَ : «كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الكَعْبَةُ» . رواه البخاري (4280) (5/146) ، وأصدر عفوًا عاما عن أهل مكة ، والعفو عند رسول الله مأمول ، هذه أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4) ، وصدق البوصيري حين قال : 
 أكرم بخلق نبى زانه خلق ... بالحسن مشتمل بالبشر مبتسم

كالزهر في ترف والبدر في شرف ... والبحر في كرم والدهر في همم


وفي سياق الحديث عن سبب خلق السماوات والأرض واقتراب الساعة ، يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصفح العام ، قال الله تبارك وتعالى :-

( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) (الحجر: 85) . وهذا تأكيد على سماحة هذا الدين العظيم ، والجزاء من جنس العمل .

وعلى نطاق الأسرة : في بداية الزواج ، إن اختلف الزوجان ، وشاء الله أن يتفرقا فلا بد من هذا السلوك الجميل ، قال تعالى :- ( وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ) ثم قرر الإسلام القاعدة العامة في فضل العفو فقال الله سبحانه:- ( وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) (البقرة: 237) .

وإن شاء الله لصرح الزوجية أن يكتمل فإنه – سبحانه - يدعو الأزواج إلى العفو عن ذلات أزواجهم وأولادهم قائلا :- ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواًّ لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (التغابن: 14) .

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: «غَارَتْ أُمُّكُمْ» ثُمَّ حَبَسَ الخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ . رواه البخاري (5225) (7/36) .


فما أحوجنا إلى أن نتمثل هذه الأخلاق العظيمة ، والدين المعاملة ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها عن النسوة اللآتي تَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لاَ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا : قَالَتِ الخَامِسَةُ: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ ، وقَالَتِ الثَّامِنَةُ: زَوْجِي المَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ . متفق عليه (خ 5189) (7/27) ، (م 2448) (4/1896) . (فَهِدَ) كالفهد في نومه وحبه لها وعدم صبره عليها . (زَرْنَبٍ) نبت طيب الرائحة .


هذه أخلاق الإسلام العظيم الذي ظلمه جاهلوه ؛ فما عرف الإسلامَ أحد إلا دخله إلا أن يكون متكبرا ، والكبر بطر الحق ، وقد تنكر العين ضوء الشمس من رمد . هذا ، وقد اطلعت على كتاب الأخ الفاضل الدكتور يوسف محمد قناوي – حفظه الله – فوجدته عظيم الفائدة في بابه ، وإني لأدعو الله تعالى أن يوفقه لما يحبه ويرضاه ، وأن يجعل هذا العمل خالصًا لوجه الكريم ، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين . والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم وسلّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©