موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة الشرح الموجز لـ "حِكَمٍ مِنْ مَدْرَسَةِ الْحَيَاةِ" - توطئة

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة الشرح الموجز لـ "حِكَمٍ مِنْ مَدْرَسَةِ الْحَيَاةِ"



بسم الله الرحمن الرحيم

توطئة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، وبعد ...


فيقول الله تعالى: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)[البقرة:269].

ما أحوجنا في هذا العصر الذي غدا فيه الناس وراحوا بين طرفيِ الرذيلة : التهور والفجور ، والجبن والجمود ، والانقباض والبلادة ، فأصبحت الحكمة نادرةَ النوادر ، وحديث الغوابر ، لا يبحث عن حكمةِ الأولِ الآخرُ ، ورحم الله قوما كانوا يلتمسون الحكمة ، ويرتحلون لها الأيام والليالي ، وينفقون فيها الثمين الغالي ؛ فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها .

هذه مقدمة لشرح "حكم من مدرسة الحياة" ، وهي كلمات أفاض بها الكريم سبحانه على العبد الفقير ، والفضل لله وحده العلي الكبير ، فأصل هذه الحكم - مع إقراري بأني أقل الناس علمًا - جاء من معارف وهبها الحليم العليم ؛ فبعضها كان مخزونًا ، وقد تتوارد فيه الخواطر مع سابقٍ أو لاحقٍ ، فضلًا عن تتابع النظر للأحداث والفتن ، ولَمَّا رأيتُ المنحَ تُرَى كالْإِحَن ، والْمِحَن تُرَى كالمنح ، وأدركت أن معرفة الناس كنوز وبلاء ، والشدة تظهر الحب والجفاء ، وتعاقب الأيام والليالي عبرة للسابق والتالي ، وكل يوم تُخَرِّجُ مدرسة الحياة أجيالًا : نساءً ورجالًا ، لا ينجح منهم إلا السعداء ، ولا يخيب إلا الأشقياء ، ويوم النتيجة آخر أيام الدنيا وأول أيام الآخرة ، لمَّا رأيت هذا وعاينته وآمنت به سطرت هذه الكلمات مقرًا بالنعم غيرَ زاعمٍ تحقيقَ سبقِ القدم ، وكما قال إمامنا الشاطبي رحمه الله : وإنما هي أعمال بنيتها ... خذ ما صفا واحتمل بالعفو ما كدرا ، أرجو الله أن ينفع بهذه السلسلة أرباب الفكر السليم ، وأن تكون سبيلا لأهل اليقظة ، وموقظة لأهل الغفلة ، وبالله التوفيق ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .

الحكمة عطاء إلهي للأنبياء والأصفياء

لقد امتن الله تعالى بالحكمة على الأنبياء (1) فقال سبحانه في داود عليه السلام :

(وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص 20).
وقال في يوسف عليه السلام :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف 22) وقد كان عمره في ذلك الوقت السابعة عشر أو الثامنة عشر أو أكثر على خلاف بين المفسرين .

وقال الله تعالى في موسى عليه السلام :
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص 14) .

والحكم فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الفقه والعقل ، قاله مجاهد.

والثاني : النبوَّة ، قاله ابن السائب. والثالث: أنه جُعل حكيماً، قاله الزجاج، قال: وليس كل عالم حكيماً، إنما الحكيم: العالم المستعمِلُ علْمَه ، الممتنعُ به من استعمال ما يُجَهَّل فيه. والرابع: أنه الإِصابة في القول قاله بعض المفسرين .

والحكمة ليست قاصرة على الأنبياء فحسب ، بل هي عطاء إلهي يصيب الله به من يشاء من عباده المؤمنين ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)[لقمان:12].

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ: ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ» رواه البخاري . قال الحافظ ابن حجر: واختلف في المراد بالحكمة هنا فقيل: الإصابة في القول. وقيل: الفهم عن الله. وقيل: ما يشهد العقل بصحته. وقيل: نورٌ يُفرق به بين الإلهام والوسواس. وقيل: سرعة الجواب بالصواب.ومنهم من فسر الحكمة هنا بالقرآن .

وفي الحديث: " لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" . رواه البخاري . (2)

لا عُمُرَ للحِكْمَة
قال الله تعالى في يحيى عليه السلام :
(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم 12) .
وكان يحيى عليه السلام في ذلك الوقت ابنَ سبع سنين كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ؛ فالحكمة لا سنَّ لها .
وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الفهم، قاله مجاهد. والثاني: اللُّب، قاله الحسن، وعكرمة. والثالث: العِلْم، قاله ابن السائب. والرابع: حفظ التوراة وعلْمها .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :

"من قرأ القرآن من قبل أن يحتلم ، فهو ممن أُوتيَ الحُكم صبيّاً" .

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ» قَالَ:فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ قَالَ: وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ" ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نَدْرِي، أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ:هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ ، فَذَاكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا.قَالَ عُمَرُ: «مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ» . رواه البخاري (4294)(5/149) .
ما هي الحكمة

قال ابن فارس :

(حَكَمَ) الْحَاءُ وَالْكَافُ وَالْمِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَنْعُ. وَأَوَّلُ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الظُّلْمِ. وَسُمِّيَتْ حَكَمَةُ الدَّابَّةِ -أي لجامُها - لِأَنَّهَا تَمْنَعُهَا، يُقَالُ حَكَمْتُ الدَّابَّةَ وَأَحْكَمْتُهَا. وَيُقَالُ: حَكَمْتُ السَّفِيهَ وَأَحْكَمْتُهُ ، إِذَا أَخَذْتُ عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ جَرِيرٌ:

أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا

وَالْحِكْمَةُ هَذَا قِيَاسُهَا، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ الْجَهْلِ . وَتَقُولُ: حَكَّمْتُ فُلَانًا تَحْكِيمًا مَنَعْتُهُ عَمَّا يُرِيدُ . وَحُكِّمَ فُلَانٌ فِي كَذَا ، إِذَا جُعِلَ أَمْرُهُ إِلَيْهِ. وَالْمُحَكَّمُ: الْمُجَرَّبُ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْحِكْمَةِ.(3)

قال ابن سِيدَه : والحِكْمَةُ: الْعدْل وَالْعلم والحلم. وحَكَمَةُ الْإِنْسَان، مقدم وَجهه.

وَرفع الله حَكَمَتَه ، أَي رَأسه وشأنه.(4)

وقال ابن القيم فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي .

قال والحكمة حكمتان : علمية وعملية . فالعلمية : الإطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها ، خلقًا وأمرًا ، قدرًا وشرعًا ، والعملية – كما قال صاحب المنازل - : وضع الشيء في موضعه.قال:
وهي على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعديه حده، ولاتعجله عن وقته ، ولا تؤخره عنه.

الدرجة الثانية: أن تشهد نظر الله في وعده، وتعرف عدله في حكمه، وتلحظ بره في منعه.

الدرجة الثالثة: أن تبلغ في استدلالك البصيرة، وفي إرشادك الحقيقة ، وفي إشاراتك الغاية". (5)

قبسات للحكمة في التفسير والحديث والعقيدة والفقه والدعوة والفلسفة والتصوف

الحكمة في التفسير

قال الله تعالى :

((يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)) (269)

قوله تعالى: ((يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ)) ، في المراد بهذه الحكمة أحد عشر قولاً «2» : أحدها: أنها القرآن، قاله ابن مسعود، ومجاهد، والضحاك، ومقاتل في آخرين. والثاني: معرفة ناسخ القرآن، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره، ونحو ذلك، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: النبوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: الفهم في القرآن، قاله أبو العالية، وقتادة، وإبراهيم. والخامس: العلم والفقه، رواه ليث عن مجاهد. والسادس: الإصابة في القول، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والسابع: الورع في دين الله، قاله الحسن. والثامن: الخشية لله، قاله الربيع بن أنس. والتاسع: العقل في الدين، قاله ابن زيد. والعاشر: الفهم، قاله شريك. والحادي عشر: العلم والعمل ، لا يسمى الرجل حكيماً إِلا إِذا جمعهما ، قاله ابن قتيبة.

قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ، قرأ يعقوب بكسر تاء «يؤت» ، ووقف عليها بياء ، والمعنى:

ومن يؤته الله الحكمة.وكذلك هي في قراءة ابن مسعود بهاء بعد التاء (6)

وقال بعض علمائنا (ومن يؤتَ الحكمةَ) على قراءة الجمهور أي ومن علمه الله الحكمة ، وأما في قراءة يعقوب (ومن يؤتِ الحكمة) أي هذا الشخص الحكيم يصدر الحكمة للناس بعد أن علمه الله إياها، من باب "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" ، كما في قوله تعالى : ((وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تَعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)) في قراءة المدنيين والبصريين والمكي ، وفي قراءة الباقين بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ ، أو كما في رواية شعبة والذين يُمْسِكُونَ بالكتاب أي يتعلمون هو يعملون به أولا ، وفي قراءة الباقين ((وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ))أي يعطونه للناس ((وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)) (الأعراف 170) .

وَقَوله تَعَالَى (ولمَّا جاءَ عيسىَ بالبيِّنات قالَ قد جئْتُكُمْ بالحكْمَة) قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ ، وفيها قولان: أحدهما: النُّبوَّة، قاله عطاء، والسدي. والثاني: الإِنجيل، قاله مقاتل. (4/82) .
وفي الحكمة في قوله تعالى : ((وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)) فيها قولان: أحدهما: أنها السُّنَّة ، والثاني: الأمر والنّهي، وكلاهما مروي عن قتادة .(زاد المسير 3/464) .

قال ابن سِيدَه :

وأحْكَمَ الْأَمر،أتقنه. وَقَوله تَعَالَى: (كِتابٌ أحْكِمَتْ آياتُهُ ثمَّ فُصِّلَتْ) جَاءَ فِي التَّفْسِير، أحْكِمتْ آيَاته بِالْأَمر وَالنَّهْي والحلال وَالْحرَام، ثمَّفُصّلَتْ بالوعد والوعيد، وَالْمعْنَى، وَالله أعلم، أَن آيَاته أحْكمتْ وفُصّلَت بِجَمِيعِ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الدّلَالَة على التَّوْحِيد وثبيت النُّبُوَّة وَإِقَامَة الشَّرَائِع، وَالدَّلِيل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: (مَا فرَّطْنا فِي الكتابِ من شَيْء) وَقَوله تَعَالَى: (وتفصيلَ كلّ شَيْء) وَقَوله تَعَالَى:(فإذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) قَالَ الزّجاج: غير مَنْسُوخَة.

وَقَوله تَعَالَى:(منْهُ آياتٌ محكماتٌ) روى عَن ابْن عَبَّاس انه قَالَ: المحْكَماتُ الْآيَات الَّتِي فِي آخر الْأَنْعَام وَهِي قَوْله تَعَالَى (قُلْ تَعالَوا أتْلُ مَاحَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكَمْ) إِلَى آخر هَذِه الْآيَات. وَقَالَ قوم: معنى (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) أَي أُحكمَتْ فِي الإبانَة، فَإِذا سَمعهَا السَّامع لم يحْتَج إِلَى تَأْوِيلهَا لبيانها، نَحْو مَا أنبأ الله بِهِ من أقاصيص الْأَنْبِيَاء وَنَحْوهَا. (7)

الحكمة في الحديث

قال الإمام ابن الأثير :

"في حَدِيثُ صِفَةِ الْقُرْآنِ «وَهُوَ الذِّكْرُ الحَكِيم» أَيِ الحَاكِم لَكُمْ وَعَلَيْكُمْ، أَوْ هُوَ المُحْكَم الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا اضْطِراب،فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ، أُحْكِمَ فَهُوَ مُحْكَم.

(س) وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ «قرأتُ المُحْكَم عَلَى عَهْد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ» يُرِيدُ المُفَصَّلَ مِنَ الْقُرْآنِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ شيءٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَشابهاً؛ لِأَنَّهُ أُحْكِمَ بَيَانُه بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَفْتَقر إِلَى غَيْرِهِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ «أَنَّهُ كَانَ يُكَنَّى أَبَا الحَكَم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الحَكَم، وكنَّاه بِأَبِي شُرَيْحٍ» . وَإِنَّمَا كَرِه لَه ذَلِكَ لِئَلَّا يُشَارِكَ اللَّهَ تَعالى فِي صِفته.

(هـ) وَفِيهِ «إنَّ مِنَ الشِّعْر لحُكْمًا» أَيْ إِنَّ مِنَ الشِعر كَلَامًا نَافِعًا يَمْنَعُ مِنَ الْجَهْلِ والسَّفَه، ويَنهَى عَنْهُمَا. قِيلَ: أَرَادَ بِهَا الموَاعِظ وَالْأَمْثَالَ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ. والحُكْم: العلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ ، وَهُوَ مَصْدَرُ حَكَمَ يَحْكُم. ويُروَى «إِنَّ مِنَ الشِّعر لَحِكْمَة» وَهِيَ بِمَعْنَى الحُكْم.

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «الصَّمْتُ حُكْمٌ وقليلٌ فاعِلُه» .

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «الخلافةُ فِي قُرَيْشٍ، والحُكْمُ فِي الْأَنْصَارِ» خَصَّهم بالحُكْم؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ: مِنْهُمْ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ، وأُبَيّ بْنُ كعبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَغَيْرُهُمْ.

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «وبكَ حَاكَمْت» أَيْ رَفَعْتُ الحُكم إِلَيْكَ فَلَا حُكم إلاَّ لَكَ. وَقِيلَ : بكَ خاصمْتُ فِي طَلَب الحُكم وإبْطالِ مَنْ نازَعَنِي فِي الدِّينِ، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الحُكْم.

وَفِيهِ «إِنَّ الجنةَ للمُحَكَّمِين» يُرْوَى بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا، فَالْفَتْحُ: هُمُ الَّذِينَ يَقَعُون فِي يَدِ العَدوّ فيُخَيَّرُون بَيْنَ الشِّرْكِ والقتْل فَيَخْتَارُونَ الْقَتْلَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ فُعِل بِهِمْ ذَلكَ فَاخْتَارُوا الثَّبَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ الْقَتْلِ. وأمَّا بِالْكَسْرِ فَهُوَ المُنْصِفُ مِنْ نفْسه. وَالْأَوَّلُ الْوَجْهُ.

(هـ) وَمِنْهُ حَدِيثُ كَعْبٍ «إنَّ فِي الجَنَّة دَاراً - ووصَفَها، ثُمَّ قَالَ:- لَا يَنْزِلُها إِلَّانَبيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أَوْ مُحَكَّم فِي نفْسه» .

(س) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «كَانَ الرَّجُلُ يَرِثُ امْرَأَةً ذَاتَ قَرَابَةٍ فَيَعْضُلُها حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَرُدَّ إِلَيْهِ صَدَاقَهَا، فَأَحْكَمَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ» أَيْ مَنَعَ مِنْهُ. يُقَالُ أحْكَمْتُ فُلَانًا: أَيْ منَعْته.وَبِهِ سُمّي الحاكِم ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الظَّالِمَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ حَكَمْت الفَرس وأَحْكَمْته وحَكَّمْته: إِذَا قَدَعْتَهُ وكَفَفْتَهُ.

(س) وَفِي الْحَدِيثِ«مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَفِي رَأْسِهِ حَكَمَة» . وَفِي رِوَايَةٍ «فِي رَأْسِ كُلِّ عبدٍ حَكَمَة، إِذَا هَمَّ بِسَيّئة فإنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَقْدَعَهُ بِهَا قَدَعَه» الحَكَمَة: حَدِيدَةٌ فِي اللِّجام تَكُونُ عَلَى أَنْف الفَرَس وَحَنَكِهِ، تَمْنَعُهُ عَنْ مُخَالَفَةِ رَاكِبِهِ. وَلَمَّا كَانَتِ الحكَمَةُ تَأْخُذُ بِفَم الدَّابَّةِ.

وَكَانَ الحَنَكُ مُتَّصلا بِالرَّأْسِ جَعلَها تَمْنَعُ مَن هِيَ فِي رَأْسِهِ، كَمَا تَمنَع الحَكَمَةُ الدَّابَّةَ.
< br />
(س) وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَوَاضَعَ رَفَعَ اللهُ حَكَمَتَه» أَيْ قَدْرَه ومَنْزلَته، كَمَا يُقَالُ: لَهُ عِنْدَنَا حكَمَةٌ: أَيْ قَدْرٌ. وَفُلَانٌ عَالِي الْحَكَمَةِ. وَقِيلَ: الحَكَمَة مِنَ الْإِنْسَانِ:

أَسْفَلُ وَجْهِهِ ، مُستعار مِنْ مَوْضع حَكَمَةِ اللِّجام، ورَفْعُها كِنَايَةٌ عَنِ الإعْزاز، لأنَّ مِن صِفة الذَّلِيل تَنْكِيسَ رَأْسِهِ.

[هـ] وَفِي حَدِيثِ النَّخَعِيّ «حَكِّمِ الْيَتِيمَ كَمَا تُحَكِّمُ وَلَدك» أَيِ امْنَعه مِنَ الْفَسَادِ كَمَا تَمْنَعُ وَلَدَكَ. وَقِيلَ: أرادَ حَكّمه فِي مَالِهِ إِذَا صَلَحَ كَمَا تُحَكّم وَلَدَكَ.

(س) وَفِيهِ «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي حَتَّى حَكَم وحَاء» هُمَا قَبِيلَتَانِ جافِيتان مِنْ وَرَاءِ رَمْل يَبْرِينَ".
الحكمة في العقيدة

قال ابن الـأثير : فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى «الحَكَم والْحَكِيمُ» هُمَا بِمَعْنَى الحَاكِم ، وَهُوَ الْقَاضِي. والحكيم فَعِيلٌ بِمَعْنَى فاعلٍ، أَوْ هُوَ الَّذِي يُحْكِم الْأَشْيَاءَ ويُتْقِنُها، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ. وَقِيلَ: الحَكِيم:

ذُو الحِكْمَة . والحِكْمةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ أفضلِ الْأَشْيَاءِ بِأَفْضَلِ الْعُلُومِ . وَيُقَالُ لِمَنْ يُحسِنُ دَقَائِقَ الصِّناعات ويُتْقِنُها: حَكِيم. (8)

قال ابن القيم في نونيته (9):
4/1 وهو الحكيمُ وذاكَ مِن أوصافهِ ... نوعان أيضاً ما هما عَدَمان
5/2 حُكْمٌ وإحكامٌ فكلٌّ منهما ... نوعانِ أيضاً ثابتا البرهان
6/1والحكمةُ العليا على نوعين أيـ ... ـضاً حُصِّلا بقواطع البرهان
7/2 إحداهما في خلقهِ سبحانَه ... نوعان أيضاً ليس يفترقان
8/3 إحكامُ هذا الخلقِ إذْ إيجادُه ... في غايةِ الإحكامِ والإتقان
9/4 وصدوره من أجل غاياتٍ له ... وله عليها حَمْدُ كلِّ لسان
10/5 والحكمةُ الأخرى فحكمةُ شرعِه ... أيضاً وفيها ذانِك الوصفان
11/6 غاياتُها اللاتي حُمِدنَ وكونُها ... في غايةِ الإتقانِ والإحسان

الحكمة في الفقه

جاء في معجم لغة الفقهاء (1/ 184) :

الحكمة: العلم بحقائق الاشياء ، وضع الشئ في موضعه.

الحُكْمِيُّ: ما أعطي حكم غيره لأمر غير معقول المعنى ... ومنه: النجاسة على قسمين نجاسة حقيقية: كالبول والغائط ونحوهما، ونجاسة حكمية: وهي ما يوجب الوضوء أو الغسل.

الحكمة في الدعوة

قال الله تعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) وهي أن يدعو المسلم الناس على علم مجتنبا الشرك كبيره وصغيره ، كما قال الله سبحانه : ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله . على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)) (يوسف 108) .

وقال سبحانه : ((وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين)) (القصص 87) .

وأن يخاطب الناس على قدر عقولهم ، وأن يراعي أولويات الدعوة والرفق واللين وبسط الوجه ولين الجانب كما قال ـ تعالى ـ لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر
... ((آل عمران : 159) ، وقال ـ سبحانه ـ مخاطباً موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ
(اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)(طه
43-44)
وروي عن قتادة أنه قال : سبحانك ربي ما أحلمك ما أعظمك ، إذا كان هذا حلمك بمن قال أنا ربكم الأعلى فكيف يكون حلمك بمن قال سبحان ربي الأعلى ، وإذا كان هذا حلمك بمن قال ما علمت لكم من إله غيري فكيف يكون حلمك بمن قال لا إله إلا الله .

ومن الحكمة أحيانا استخدام الشدة والتأنيب ، ذلك لأن الحكمة تعني وضع كل شيء في موضعه ، فهي لين في وقت اللين ، وشدة في وقت الشدة . يقول الله ـ تعالى ـ على لسان موسى عليه السلام ـ مخاطبا فرعون لما طغى وتكبر : ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا) (الإسراء: 102) ، ويقول تعالى : ((يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين و اغلظ عليهم ومأواهم جهنم و بئس المصير))((التوبة: 73)) .
والأمر كما قيل :
ووضعُ النَّدَى في موضع السيفِ بالعُلَا *** مضرٌّ كوضع السيفِ في موضع الندى

ومن الحكمة مجادلة أهل الكتاب بالحجج القاطعة كما قال الله تعالى : ((ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)) (العنكبوت:26). (10)

الحكمة في الفلسفة

قال القاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري :

"وَالْمَشْهُور أَن الْحِكْمَة علم بأحوال أَعْيَان الموجودات على مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي نفس الْأَمر بِقدر الطَّاقَة البشرية.

وَمنهم من عرفها بأنها ما به يكون خُرُوج النَّفس إِلَى كمالها الْمُمكن فِي جَانِبي الْعلم وَالْعَمَل.

أما فِي جَانب الْعلم فبأن يكون متصورا للموجودات كَمَا هِيَ ومصدقا للقضايا كَمَا هِيَ. وَأما فِي جَانب الْعَمَل فَأن تحصللَهُ الملكة التَّامَّة على الْأَفْعَال المتوسطة بَين الإفراط والتفريط .

وَأَيْضًا الْحِكْمَة هِيَ هَيْئَة الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة العملية المتوسطة بَين الجربزة الَّتِي هِيَ إفراط هَذِه الْقُوَّة والبلادة الَّتِي هِيَ تفريطها وتفصيلها فِي الْعَدَالَة كماسيأتي .

وَاعْلَم أَن بعض أَصْحَابنَا أَعرضُوا عَن الْحِكْمَة إعراضا تَاما وَبَعْضهمْ جعلوها مقصدا أقْصَى، وَالْحق أَن تكون جَامعا لأقسام الْحِكْمَة العملية أَعنِي تَهْذِيب الْأَخْلَاق- وتدبير الْمنزل - والسياسة المدنية. ولأقسام الْحِكْمَة الرياضية أَعنِي الْهَيْئَة - والهندسة - والحساب - والموسيقى -. ولأكثر مسَائِل الْحِكْمَة الطبيعية موافقا للحكماء وَفِي الإلهيات وَبَعض من الطبيعيات مُوَافقا للطائفة الْعلية الصُّوفِيَّة رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.

قال : وَعَلَيْك أَن لَا تكون تَابعا للحكماء فِي الإلهيات فَإِنَّهُم فِيهَا على الْبطلَان والخذلان.

ثمَّ إِن الْحِكْمَة على قسمَيْنِ الْحِكْمَة العمليةوَالْحكمَة النظرية.

أَولا الْعلم بأحوال السماء والأرض يُسمى حِكْمَة نظرية.

فالحكمة العملية: العلم بأحوال الْأَفْعَال والأعمال الَّتِي وجودهَا بقدرتنا واختيارنا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَسَائِر الْأَفْعَال الْحَسَنَة والسيئة. من حَيْثُ إِنَّه يُؤَدِّي إِلَى صَلَاح المعاش والمعاد يُسمى حِكْمَة عملية.

أَقسَام الْحِكْمَة العملية : (تَهْذِيب الْأَخْلَاق) و (تَدْبِير الْمنزل) و (السياسة المدنية) .

وَأما أَقسَام الْحِكْمَة النظرية. فأحدها: الْعلم الْأَعْلَى وَيُسمى بالإلهي والفلسفة الأولى وَالْعلم الْكُلِّي وَمَا بعد الطبيعية وَمَا قبل الطبيعية أَيْضا. وَالثَّانِي: الْعلم الْأَوْسَط وَيُسمى بالرياضي والتعليمي أَيْضا. وَالثَّالِث: الْعلم الْأَدْنَى وَيُسمى بالطبيعي أَيْضا .

قال : الْحُكَمَاء (يعني الفلاسفة) خالفوا كَافَّة الإسلاميين فِي مسَائِل: من تِلْكَ قَوْلهم إِن الأجساد لَا تحْشر. وَإِنَّمَا المثاب والمعاقب هِيَ الْأَرْوَاح الْمُجَرَّدَة. والعقوبات رُوحانية لَا جسمانية وَلَقَد صدقُوا فِي إِثْبَات الروحانية وَلَكِن كذبُوا فِي إِنْكَار الجسمانية وكذبتهم الشَّرِيعَة فِيمَا قطعُوا بِهِ. وَمن تِلْكَ قَوْلهم إِن الله تَعَالَى يعلم الكليات وَلَا يعلم الجزئيات ، وَهُوَ أَيْضا كفر صَرِيح بل الْحق أَنه لَا يعزب عَن علمه تَعَالَى مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض. وَمن ذَلِك قَوْلهم بقدم الْعَالم وأزليته. فَلم يذهب أحد من الْمُسلمين إِلَى شَيْء من هَذِه الْمسَائِل. وَمَا وَرَاء ذَلِك من نفيهم الصِّفَات. وَمن ذَلِك قَوْلهم إِنَّه عَالم بِالذَّاتِ لَا بِعلم زَائِد وَمَا يجْرِي مجْرَاه. فمذهبهم فِيهَا قريب من مَذْهَب الْمُعْتَزلَة.< /p>
الْحِكْمَة الْمَنْطُوق بهَا: هِيَ علم الشَّرِيعَة والطريقة.

الْحِكْمَة الْمَسْكُوت عَنْهَا: هِيَ أسرار الْحَقِيقَة الَّتِي لَا يطلع عَلَيْهَا عُلَمَاء الرسوم والعوام على مَا يَنْبَغِي فتضرهم أَو تهلكم كَمَا رُوِيَ أَن رَسُول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - كَانَ يجتاز فِي بعض سِكَك الْمَدِينَة مَعَ أَصْحَابه فأقسمت عَلَيْهِ امْرَأَة أَن يدخلُوا منزلهَا فَدَخَلُوا فَرَأَوْا أَوْلَاد الْمَرْأَة يَلْعَبُونَ حولهَا فَقَالَت يَا رَسُول الله الله أرْحم بعباده أم أَنا بأولادي فَقَالَ بل الله أرْحم الرَّاحِمِينَ - فَقَالَت يَا رَسُول الله أَترَانِي أحب أَن ألقِي وَلَدي فِي النَّار قَالَ لَا - قَالَت فَكيف يلقِي الله عبيده فِيهَا وَهُوَ أرْحم بهم . قَالَ الرَّاوِي فَبكى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ هَكَذَا أُوحِي إِلَيّ.

وفي حديثه عن العدالة قال :

الْعَدَالَة: فِي اللُّغَة الاسْتوَاء وضد الْجور. وَفِي الشَّرْع الاسْتقَامَة على الطَّرِيق الْحق بالاجتناب عَمَّا هُوَ مَحْظُور مَمْنُوع فِي دينه.

وَتَقْرِير الْكَلَام أَن الْخَالِق تَعَالَى وتقدس قد ركب فِي الْإِنْسَان ثَلَاث قوى إِحْدَاهَا مبدأ إِدْرَاك الْحَقَائِق والشوق إِلَى النّظر فِي العواقب وَالتَّمَيُّز بَين الْمصَالح والمفاسد وَهِي المطمئنة ويعبر عَنْهَا بِالْقُوَّةِ النطقية - والعقلية- وَالنَّفس المطمئنة - وَأَيْضًا قَالُوا إِن النَّفس المطمئنة هِيَ الَّتِي تمّ نورها بِنور الْقلب حَتَّى انخلعت عَن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة.وَالثَّانيِة مبدأ جذب الْمَنَافِع وَطلب الملاذ من المآكل والمشارب وَغير ذَلِك وَتسَمى الْقُوَّة الشهوانية والبهيمية وَالنَّفس الأمارة. وَبِعِبَارَة أُخْرَى النَّفس الأمارة هِيَ الَّتِي تميل إِلَى الطبيعة الْبَدَنِيَّة وتأمر باللذات والشهوات الحسية وتجذب الْقلب إِلَى الْجِهَة السفلية فَهِيَ مأوى الشرور القبيحة ومنبع الْأَخْلَاق الذميمة. وَالثَّالِثَة مبدأ الْإِقْدَام على الْأَهْوَال والشوق إِلَى التسلط والترفع وَهِي الْقُوَّة الغضبية والسبعية وَالنَّفس اللوامة.

والْعَدَالَة هِيَ الْأَمر الْمُتَوَسّط بَين الإفراط والتفريط وَهُوَ ثَلَاثَة أُمُور الْحِكْمَة والعفة والشجاعة الَّتِي هِيَ من أصُول الْأَخْلَاق الفاضلة المكتسبة وتفاصيلها إِن كل الْفَضَائِل الكسبية منحصرة فِي التَّوَسُّط.

فِي الْإِنْسَانَ قُوَّة عقلية وَيُقَال لإفراطها الجَرْبَزَةِ ، ولتوسطها الْحِكْمَة ، ولتفريطها البلادة .

أما الْحِكْمَة فَهِيَ معرفَة الْحَقَائِق على مَا هِيَ عَلَيْهِ بِقدر الِاسْتِطَاعَة وَهِي الْعلم النافع الْمعبر بِهِ بِمَعْرِفَة النَّفس بِمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا الْمشَار إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى {وَمن يُؤْتِي الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا} وإفراطها الجربزة وَهِي اسْتِعْمَال الْفِكر فِيمَا لَا يَنْبَغِي كالمتشابهات على وَجه لَا يَنْبَغِي لمُخَالفَة الشَّرَائِع نَعُوذ بِاللَّه من علم لَا ينفع ، وتفريطها الغباوة الَّتِي هِيَ تَعْطِيل الْقُوَّة الفكرية بالإرادة وَالْوُقُوف عَن اكْتِسَاب الْعُلُوم النافعة.

وَقُوَّة شهوانية وَيُقَال لإفراطها الْفُجُور ولتوسطها الْعِفَّة ولتفريطها الجمود .

قُوَّة غضبانية وَيُقَال لإفراطها التهور ولتوسطها الشجَاعَة ولتفريطها الْجُبْن .

فَلِكُل من هَذِه القوى الثَّلَاث ثَلَاث جِهَات وأطراف . الطّرف الأول وَالثَّالِث مِنْهَا مذمومان والطرف الْمُتَوَسّط مَحْمُود. وكل متوسط من المتوسطات جِهَة الْعَدَالَة وَالْمَجْمُوع جِهَات الْعَدَالَة وَنَبِينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- مُحَدِّدُ جِهَات الْعَدَالَة كلهَا أَي محيطها وجامعها".(11)

الحكمة في التصوف

يعتمد بعض الصوفية فيخلواتهم الأربعينية على حديث رواه مكحول قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء) (من أخلص لله تعالى العبادة أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) ، ويروى عن الإمام الغزالي أبي حامد رحمه الله أنه قال عملت بهذا الحديث أربعين يومًا فلم أجد شيئا من الحكمة فعَجِبْتُ فنمت فسمعت مناديا يقول يا أبا حامد لقد أخلصت للحكمة ولم تخلص لله .

وعلى كل حال فالحديث ضعيف الإسناد إلا أن الصوفية يؤيدون معناه بما ورد فى القرآن الكريم عن موسى عليهالسلام حيث يقول {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة} (الأعراف : 142) ، ففيها إشارة إلى الاستعداد البدنى والنفسى خلالها بمزيد عبادة وتبتل من أجل استقبال واردات الحق.

ومن أصولهم أن من يدخل الخلوة ينبغى أن يكون خاليا من جميع الأفكار إلا ذكر الله، ومن جميع المرادات إلامراد ربه ، بصرف النظر عما يمكن أن يقع دون نظر إلى شىء سواه، وإلا فُتِنَ بهواه. (12)


من وصايا الحكمة القرآنية

قال الله تعالى في سورة الإسراء :

((لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَاتَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) )).

فبُدِأَت هذه الوصايا بالتوحيد وختمت بالتوحيد ، فإن كانت الحكمة المشهورة تقول رأس الحكمة مخافة الله ، فإننا نوجز القول بأن رأس الحكمة والمخافة توحيد الله ، وكل حكمة ومخافة نابعة من توحيد الله ، والله أعلم .




(1)، (2) ، (5) مقال د/سعيد عبد العظيم منشور في الشبكة الإسلامية بتصرف وزيادة .
(3) انتهى (مقاييس اللغة 2/91 ، 93) ..
(4) (المحكم والمحيط الأعظم 3/50 ، 51) .
(6) زاد المسير(1/242) .
(7) (المحكم والمحيط الأعظم 3/50 ، 51) .
(8) (النهاية 1/ 418 : 421) .
(9) (مختارات من نونية ابن القيم– د/عمر بن عبد الله المقبل ص 3)
(10) مقال أهمية الحكمة في الدعوة زاحف شبكة الفجر على الإنترنت .
(11) (دستور العلماء 2 / 32 : 37 ، 221) .
(12) مفاهيم إسلامية 1 / 144) مقال د/عبد الفتاح عبد الله بركة بتصرف وزيادة.



الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©