موضوع عشوائي

آخر المواضيع

تأليف القلوب بكلام علام الغيوب

بسم الله الرحمن الرحيم
تأليف القلوب بكلام علام الغيوب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فيقول الله تعالى في كتابه العظيم :
((لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)) (النساء 114) .
وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَءُوا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ». (1)
والمفترض أن حامل القرآن هو أفضل الناس أخلاقًا وأدبًا كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : "ينبغي لحامل القُرآن أن يُعرف بليلهِ إذا النَّاس نائمون، وبنهاره إذا النَّاس مفطرون، وبحزنه إذا النَّاس يفرحون، وببكائهِ إذا النَّاس يضحكون، وبصمتهِ إذا النَّاس يخوضون، وبخشوعه إذا النَّاس يختالون ". وقال الفضيل بن عياض رحمه الله : "حامل القُرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو تعظيماً لحق القرآن"،
كلكم يعلم أن النت عالم افتراضي يصغر الكبير ويكبر الصغير ، وكم من أسماء لامعة رفعت في عالم الإنترنت وهو في عالم الحقيقة سراب ، وكم من مدع بأنه قرأ وتعلم ، وأجازه فلان وعلان ، وفي الواقع ما هي إلا أكاذيب بنى عليها مشيخته على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم ، والله لا يهدي القوم الظالمين ، وحب الظهور يقصم الظهور ، وكفى بربك بذنوب عباده خبيرًا بصيرًا ، وعلى كل الأحوال : الأصل في المسلم الصدق والمعاملة تكون بتقديم حسن الظن ، مهما تغيرت العصور أو تطورت الأمور ، ومن خَدَعَنَا بالله خُدِعْنَا لَه ، ومن أقسم لنا صدقناه ، ومن سألنا أجبناه ، والله أعلم بالنوايا والخبايا .
ومما لاحظته من خلال تعاملي مع الشبكة الدولية للمعلومات أن عددًا من الشيوخ عامة - ومن مقرئي القرآن الكريم خاصة - يتجنبون الآخرين ؛ فلا سلام ولا كلام ، بل ربما يطعن بعضهم في بعض ، وكأن الطاعن قد أحاط بكل شيء علمًا ، ولا قارئ ولا مقرئ إلا هو ، وكأن منهجه هو الصواب ، وما سواه فباطل لا أصل له ، وحينئذ تذكرت قول الله تعالى : (( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)) (الإسراء 53) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ " . (2)  "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ " قَالُوا: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ".
، فما المانع من التناصح في العلم والتواصي بالحق والصبر ؟! فالمعلم الصادق هو الذي يطلب العلم الصحيح ويقبله من كل المصادر ، ويرجع إلى الصواب إن كان مخطئًا ...... ويضيع العلم بين الحياء والكبر .
ومع اختلاف الصحابة والأئمة من بعدهم في كثير من المسائل لم يشنع بعضهم على بعض ، أو يهجر بعضهم بعضًا ، وإنما اختلفوا بأدب ، وجمعتهم مآدب العلم وسعة الفهم ، وهذه بعض المشاهد والأحاديث المختصرة لتوضيح ما كان بين هؤلاء العظماء من محبة ورحمة رغم الخلاف :
- عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: كَادَ الخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ، أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ الحَنْظَلِيِّ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الآخَرُ بِغَيْرِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلاَفِي، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إِلَى قَوْلِهِ {عَظِيمٌ} [الحجرات: 3] ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ . (3)
وقال عمر رضي الله عنه في فضل أبي بكر لجماعة المسلمين في المدينة : ((لَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ)) . (4)
- وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ، قَالَ: صَلَّى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ العَصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي، فَرَأَى الحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَقَالَ: بِأَبِي، شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ لاَ شَبِيهٌ بِعَلِيٍّ " وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ . (5)
- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: إِنِّي لَوَاقِفٌ فِي قَوْمٍ، فَدَعَوُا اللَّهَ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَقَدْ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ، إِذَا رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي قَدْ وَضَعَ مِرْفَقَهُ عَلَى مَنْكِبِي، يَقُولُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، إِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، لِأَنِّي كَثِيرًا مَا كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُنْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَفَعَلْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَانْطَلَقْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» فَإِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ . (6)

قال يونس الصًّدفيُّ : ما رايتُ أعقل من الشافعي ، ناظرتُه يوماً في مسألة ، ثم افترقنا ، ولقيني ، فأخذ بيدي ، ثم قال : يا أباموسى ، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ؟!
وصدق بشار بن بُرْدٍ إذ يقول :
إِذا كُـنتَ فـي كُلِّ الذُنوبِ مُعاتِباً ... صَـديقَكَ لَـم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه
فَـعِش واحِـداً أَو صِل أَخاكَ فَإِنَّهُ ... مُـفارِقُ ذَنـبٍ مَـرَّةً وَمُـجانِبُه
إِذا أَنتَ لَم تَشرَب مِراراً عَلى القَذى ... ظَـمِئتَ وَأَيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه
، فيا معشر القراء - وهي دعوة خالصة لله - جددوا النوايا وتآلفوا وتآخوا وتحابوا بنور الله ، تناسوا ما بينكم من خلافات ، لا يسبن بعضكم بعضا ، لِينُوا مع إخوانكم - طلابًا وشيوخًا - يرحمكم الله ، اجتمعوا وتعاونوا علي ما اتفقتم عليه من تعظيم كتاب الله ، وحب العلم والعلماء ، وليعذر بعضكم بعضًا في ما اختلفتم فيه ، إلهكم واحد ، كتابكم واحد ، نبيكم واحد  ((إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)) (الأنبياء 92) ، ((وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)) (المؤمنون 52) .
بسم الله الرحمن الرحيم
((وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) (3)
نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يؤلف بين قلوب المسلمين كما ألف بين قلوب الصحابة رضوان الله عليهم : (( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (الأنفال 63) ،كما نسأله سبحانه أن يجمع قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن يوحد صفنا ويجمع شملنا ويرفع راياتنا ، ويجعلنا على هدي نبينا وحبيبنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قولا وعملا ، ظاهرا وباطنا ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري (5061) (6/198) ، ومسلم (2667) (4/2053) .
(2) حسن رواه الترمذي (2510) (4/664) ، وأحمد (1430) (3/43) وغيرهما . وفي لفظ عبد بن حميد (97) (1/136) وغيره.
(3) البخاري (7302 ) (9/97) .
(4) البخاري (6830)8/168) .
(5) رواه البخاري (3542) (4/187) ، ورويت فيه (3750) (5/26) (ليس شبيهٌ) بالرفع باعتبار ليس هنا بمعنى لا العاطفة والتقدير لا شبيه بعلي. وروي شبيهًا على أنه خبر ليس (تعليق د/مصطفى البغا) .
 (6) رواه البخاري (3677) (5/9) ، ومسلم (2389) (4/1858) وفيه وَقَالَ (أي علي رضي الله عنه) : مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ .
 

الكــاتــب

    • مشاركة

هناك تعليق واحد:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©