موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة حكم من مدرسة الحياة 3-لا تَخْشَ الْمَوْتَ وَاجْعَلْهُ مَرَضًا عَابِرًا تَعْقُبُهُ الْعَافِيَةُ

بسم الله الرحمن الرحيم
الحكمة الثالثة : لا تَخْشَ الْمَوْتَ وَاجْعَلْهُ مَرَضًا عَابِرًا تَعْقُبُهُ الْعَافِيَةُ .

الموت هو الواعظ الصامت والزائر الغامض والدواء الناجع والشفاء النافع ، هو الحق الذي لا مرية فيه
، "أذل الله به رقاب الجبابرة، وأنهى به آمال القياصرة، فنقلهم بعظمة الموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء الْمُهود (جمع مَهْدٍ) إلى ظلمة اللُّحود ، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب" (من مقدمة خطبة لشيخنا محمد حسان حفظه الله) .
كُلُّ ناعٍ فَسَيُنعى ، وكُلُّ باكٍ فَسَيُبكى ، وكُلُّ مَذخورٍ سَيَفنى ، وكُلُّ مَذكورٍ سَيُنسى ، لَيسَ غَيرَ اللَهِ يَبقى ، مَن عَلا فَاللَهُ أَعلى (كلام ينسب لأبي نواس)
تأمل قول الله تعالى :
((فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) (الواقعة 83 : 87) .
من ذا الذي يقدر أن يقدم أو يؤخر أجلَ عبد حضره الموت ؟! ولهذا تحدَّى الله به الناس جميعًا على اختلاف مللهم ونِحَلِهم فقال سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم :
((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) (يونس 104) .
هل هناك إله من الآلهة الباطلة المزعومة يقدر على إيقاف الموت لنملة قدر الله وفاتها ؟! إنه قضاء الله الحتمي الذي لا مفر منه ، فإذا علمتم هذا فاعلموا أنه لا إله إلا الله القاهر فوق عباده .
، وقال سبحانه : ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا)) (آل عمران 145) ،
((إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ))
(نوح 4) ،
< /font>
((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)) (الرعد 38)
((إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)) (يونس 49)
((فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)) (النحل 61)
(( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) (المنافقون 11)
لقد شيعنا ونشيع كثيرًا من الناس من أصدقائنا وأقاربنا وشيوخنا وأحبابنا ، وغدًا سنُشَيَّعُ ، ومع ذلك لا نزيد في العمل ولا نكف عن الزلل ، فالعيون لا تدمع والآذان لا تسمع
والقلوب لا تخشع ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ؛ لأن الغفلة استحوذت علينا ، والدنيا شغلتنا عن التفكر في هذا الأمر العظيم ، تأمل قول الله تعالى :
((كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)) (القيامة 20 : 40) .
يا من بدنياه اشتغل ... وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة ... والقبر صندوق العمل

الموت هو الزائر الذي لا يطرُق على صاحبه بابًا ولا يستأذن له حجَّابًا ، له تصرفات وتحركات ؛
فهو يحضر ، قال الله تعالى :
((أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ... الآية)) (البقرة 133) ،

، ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ.... الآية)) (البقرة 180) .
والموت يجيئ ويأتي ، قال الله سبحانه : ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)) (الأنعام 61)
، ((وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي)) (المنافقون 10)
الموت يتوفى ، قال الله تبارك وتعالى : ((حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)) (النساء 15)
الموت يدرك مطلوبه ، قال الله سبحانه : ((أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)) (النساء 78)
الموت كالأسد الذي ينقض على فريسته ، وصدق من قال :

وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا *** أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ (من الكامل - أبو ذؤيب الهُذَلِيِّ)
لكن هل كل الناس يصدقون أنهم سيموتون ؟!
نعم ، لكن "ما رأيت يقينا أشبه بالشك من الموت" العلم بالموت متحقق لكن عمل أكثر الناس يقول إنهم لا يصدقون بالموت ، وإلا فلماذا لم يُعِدُّوا الزاد لهذا اليوم ؟!
ولأجل ذلك لو تدبرنا هذه الآيات المفتتحة بقوله تعالى ((
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ))< /font> لعرفنا الجواب ، يقول الله تعالى في كتابه العظيم :
((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) (آل عمران
185)
.
((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)) (الأنبياء
35) . ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)) (العنكبوت 57) .
خواتيم هذه الآيات تشير إلى أن الموت مجرد قنطرة من دار الفناء إلى دار البقاء ، أو ممر من الدنيا إلى الآخرة ، وهذه القنطرة أو ذلك الممر إما أن يمهد الطريق إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، أو إلى نار أعدت للمجرمين عياذًا بالله ،
((يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)) (سورة المؤمن 39) .
ليس القبر أحجارًا ، وإنما : خَلَفَ الأحجار ديارْ ... من جنة أو نار ؛ فالقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ، نسأل الله السلامة والعافية ، ليست الدنيا كما فهم الدهريون "ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع ، وما يهلكنا إلا الدهر" ، وقصَّ الله تعالى قولهم :
((هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)) (المؤمنون 36 ، 37)
، ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)) (الجاثية 24) كلا وألف كلا كلها ظنون وأقاويل كاذبة لا أرجل لها ، بل ((إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)) (العلق 8) ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) (النجم 42) ، وليس هذا مجال الرد على هؤلاء .
والخلاصة أيها القارئ الكريم أن حل معضلة الانفصال بين تصديق الموت قولًا والتكذيب عملًا هو أن أكثر الناس لا يؤمنون بالآخرة ، واقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى :
((إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ)) (غافر 59)
((وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)) (الروم 6 ، 7) .
ولا عجبَ فإن الله العليم بخلقه اللطيف الخبير أخبر سبحانه وتعالى في كتابه العظيم في عشرين موضعًا أن "أكثر الناس" لا يعلمون ، لا يشكرون ، لا يؤمنون ، ... إلخ) ، وفي ثمانية وثلاثين موضعًا أخبر سبحانه أن "أكثرهم" - والضمير يعود حسب السياق - لا يؤمنون ، لا يعلمون ، لا يعقلون ، يجهلون ، لفاسقين ، يتبعون الظن ، مشركون .... إلخ) ، فلا تشغل بالك بالناس ؛ لأن الله تعالى لا يعبؤ بهذه الأعداد إلا إن تابت وأنابت ودعته سبحانه أن يوفقها ، قال عز وجل :
((قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا)) (الفرقان 77) ، المهم والنافع لك أن تعتني بنفسك ؛ لأنك كما خلقت فردًا تموت فردًا وتبعث فردًا وتحاسب فردًا (( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)) (مريم 93 : 95) .
تزود من التقوى فانك لا تدري….اذا جن ليلٌ هل تعيش الى الفجرِ
فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا … وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صغار يُرْتَجَى طولُ عمرهم…وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم صحيح مات دون علة … وكم من سقيم عاش حينا من الدهرِ
وكم من عروس زينوها لزوجها …. وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر

أرءيت إلى المرض ، هل عندما تصاب بمرض تتألم وحدك أم يتألم كل من تعرف من الناس ؟! ألمك يلزمك ولا يتعدى لغيرك ، وكذلك ألم الموت وسكراته ، فأعد لهذا اليوم عدته
؛ فصم يوما شديدًا حرُّه ليوم النشور، وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور ، وحج حجة لعظائم الأمور ، وتصدق بصدقة على مسكين أو كلمة حق تقولها أو كلمة شر تسكت عنها
وقد روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه رؤي فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ , وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُدُولَهُ ، وَغَارَتْ نُجُومُهُ ، وَقَدْ مَثُلَ فِي مِحْرَابِهِ ، قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ ، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ ، وَيَبْكِى بُكَاءَ الْحَزِينِ ، وَيَقُولُ : "يَا دُنْيَا غُرِّي غَيْرِي ، أَبِي تَعَرَّضْتِ ؟ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ ؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ، قَدْ بَايَنْتُكِ ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ فِيهَا ، فَعُمْرُكِ قَصِيرٌ ، وَخَطَرُكِ حَقِيرٌ ، آهٍ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ , وَبُعْدِ السَّفَرِ , وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ " . (رواه ابن أبي الدنيا في مقتل علي (105) (1/89) ، والشَّجَرِيّ في الأمالي الخميسية (3009) (2/431) وغيرهما) .
كلنا نمرض ، ومهما طال المرض فهو إلى زوال ، والمرض خير لأنه ينقي العبد من الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم :
"مَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ "
. حسن رواه أحمد (1607) (3/159) ، والترمذي (2398) (4/601) وغيرهما .

ولَمَّا نَزَلَتْ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَنُجَازَى بِكُلِّ سُوءٍ نَعْمَلُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُكَ اللهُ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ فَهَذَا مَا تُجْزَوْنَ بِهِ " . صحيح بطرقه وشواهده ، رواه أحمد (68) (1 / 229 ، 230) ، وسعيد بن منصور في التفسير من سننه (696) (4/1387) وغيرهما .

والذي دفعني للقول بأن الموت مرض أو كالمرض قوله صلى الله عليه وسلم : " تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً، إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً، إِلَّا الْمَوْتَ، وَالْهَرَمَ " . صحيح رواه أحمد (18455) (30/398) ، والترمذي (2038) (4/383) ، وغيرهما (وهذا لفظ أحمد) .
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم : «فِي الحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، إِلَّا السَّامَ» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَالسَّامُ المَوْتُ، وَالحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّونِيزُ . رواه البخاري (5688) (7/124) ، ومسلم (2215) (4/1735) .
فالموت مرض على اعتبار الاستثناء المتصل ، والأمر يسير بإذن الله على المؤمنين كما ثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي إِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، نَزَلَ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ كَفَنِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ، فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، .... من حديث البراء الطويل)) . صحيح رواه ابن المبارك (1219) (1/430) وأحمد (18534) (30 / 499 ، 500) وغيرهما .

وقال صلى الله عليه وسلم : «المُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الجَبِينِ» . صحيح رواه الترمذي (982) (3/301) ، والنسائي (1829) (4/6) وغيرهما .
فلا تنظر إلى الموت بل انظر إلى ما بعده من نعيم ، ولذلك لما حضرت الحبيبَ صلى الله عليه وسلم الوفاةُ قالت له فاطمة (ريحانته) وَا كَرْبَ أَبَتَاهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ، إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ مِنْ أَبِيكِ مَا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدًا، الْمُوَافَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . حسن صحيح كما قال العلامة الألباني ، وأكثر أحكام الرواية ننقلها عنه رحمه الله فليعلم ، رواه ابن ماجه (1629) (1/521) ، والبزَّار (6673) (13/205) وغيرهما .
وعَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ لِابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَمُوتُ وَعِنْدَهَا ابْنُ أَخِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكِ وَهُوَ مِنْ خَيْرِ بَنِيكِ، فَقَالَتْ: دَعْنِي مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ تَزْكِيَتِهِ، فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ فَقِيهٌ فِي دِينِ اللَّهِ، فَأْذَنِي لَهُ لِيُسَلِّمَ عَلَيْكِ، وَلْيُوَدِّعَكِ، قَالَتْ: فَأْذَنْ لَهُ إِنْ شِئْتَ، قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ سَلَّمَ وَجَلَسَ، فَقَالَ: " أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَكِ وَبَيْنَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْكَ كُلُّ أَذًى وَنَصَبٍ - أَوْ قَالَ: وَصَبٍ - وَتَلْقَى الْأَحِبَّةَ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ، أَوْ قَالَ أَصْحَابَهُ، إِلَّا أَنَّ يُفَارِقَ رُوحُكِ جَسَدَكِ "، فَقَالَتْ: وَأَيْضًا، فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: " كُنْتِ أَحَبَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَيُحِبُّ إِلَّا طَيِّبًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ إِلَّا هُوَ يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَسَقَطَتْ قِلَادَتُكِ لَيْلَةَ الْأَبْوَاءِ فَاحْتَبَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنْزِلِ وَالنَّاسُ مَعَهُ فِي ابْتِغَائِهَا، أَوْ قَالَ: فِي طَلَبِهَا حَتَّى أَصْبَحَ الْقَوْمُ مِنْ غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] الْآيَةَ. فَكَانَ فِي ذَلِكَ رُخْصَةٌ لِلنَّاسِ عَامَّةً فِي سَبَبِكِ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَمُبَارَكَةٌ "، فَقَالَتْ: دَعْنِي يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ هَذَا، فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ لَوْ أَنِّي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا . صحيح روه أحمد (1639) (2/873) .
وعن عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رضي الله عنه أنه سُمِعَ ، بِصِفِّينَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ، وَهُوَ يُنَادِي: "إِنِّي لَقِيتُ الْجَبَّارَ، وَتَزَوَّجْتُ الْحُورَ الْعَيْنَ، الْيَوْمَ نَلْقَى الْأَحِبَّةَ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ "، عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ آخِرَ زَادِكَ مِنَ الدُّنْيَا ضَيَاحٌ مِنْ لَبَنٍ" . صحيح رواه الطبراني في الأوسط (6471) (6/301) ، ورواه عن الطبراني أبو نعيم في الحلية (1/141) بلفظ (ضَيْحَةُ) وبعض الزيادات ورواه غيرهما (الضَّيْحُ والضَّيَاحُ: اللَّبَنُ الرَّقِيقُ الْكَثِيرُ الْمَاءِ ، وهو أَن يُصَبَّ الماءُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى يَرِقَّ، سَوَاءٌ كَانَ اللَّبَنُ حَلِيبًا أَو رَائِبًا (ابن منظور 2/527) .

ورُوِيَ عن أبي حامد الغزَّالي رحمه الله أنه قال قبل موته بقليل : هاتوا لي كفني لأتجهّز للدّخول على الملك ، فأخذه وصعد إلى غرفة بأعلى واغتسل و لبس كفنه وصعدنا بعده فوجدناه قد لحق بربّه وإذا بهذه الرّقعة بجوار رأسه وقد كتب فيها هذه الأبيات:

قل لإخوان رأونـي ميّتا
فبكوني و رثوني حزنا


أتظنّون بأنّي ميّتكـم
ليس هذا الميّت والله أنا


أنا في الصّور وهذا جسدي
كان لباسي وقميصي زمنا


أنا درّ قد حواني صدف
طرت عنه و بقى مرتهنا


أنا عصفور وهذا قفصي
كان سجني فتركت السّجن


أشكر الله الّذي خلّصني
و بنا لي في المعالي وطنا


كنت قبل اليوم ميّتا بينكم
فحييت وخلعت الكفن


قد ترحّلت و خلّفتكم
لست أرضى داركم لي وطنا

وأنا اليوم أناجي ملكا
وأرى الحقّ جهارا علنا


عاكفا في اللّوح أقرأ وأرى
كلّ ما كان و يأتي أو دنا


و طعامي و شرابي واحد
و هو رمز فافهموه حسنا

ليس خمرا سائغا أو عسلا
لا ولا ماء ولكن لبنا


هو شراب رسول الله إذ
كان لسرّ من فطرة فطرتنا


حيّ ذى الدار بنوم مغرق
فإذا ما مات طار الوسنا


لا تظنّوا الموت موتا إنّه
لحياة و هو غايات المنى


لا ترعكم هجمة الموت فما
هو إلاّ إنتقال من هنا

اخلعوا الأجساد من أنفسكم
تبصّروا الحقّ عيانا بيّنا


وخذوا في الزّاد جهدا لا تنوا
ليس بالعاقل هنا من ونا

أحسنوا الظّنّ بربّ راحم
تشكروا السعي و تأتوا أمنا


ما أرى نفسي إلاّ أنتم
و اعتقادي أنّكم أنتم أنا


عنصر الأنفاس منّا واحد
و كذا الأجسام جسم عمّنا


فمتى ما كان خير لنا
و متى ما كان شرّ فمنا


فارحموني ترحموا أنفسكم
و اعلموا أنّكم في أثرنا


أسأل الله لنفسي رحمة
رحم الله صديقا أمنّا


و عليكم منّي سلام
طيّب و سلام الله برّ وثنا

نسأل الله أن يغفر ذنوبنا و
يحسن ختامنا ، وأن يعاملنا برحمته لا بأعمالنا ، إنه سبحانه هو أهل التقوى وأهل المغفرة ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©